فصل: تفسير الآية رقم (9)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ‏(‏9‏)‏‏}‏

الفاء لتفريع ما بعدها على قوله‏:‏ ‏{‏بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 8‏]‏ الخ، لأن رؤية مخلوقات الله في السماء والأرض من شأنها أن تهديهم لو تأملوا حق التأمل‏.‏

والاستفهام للتعجيب الذي يخالطه إنكار على انتفاء تأملهم فيما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض، أي من المخلوقات العظيمة الدالة على أن الذي قدَر على خلق تلك المخلوقات من عدم هو قادر على تجديد خلق الإِنسان بعد العدم‏.‏

والرؤية بصرية بقرينة تعليق ‏{‏إلى‏}‏‏.‏ فمعنى الاستفهام عن انتفائها منهم انتفاء آثارها من الاستدلال بأحوال الكائنات السماوية والأرضية على إمكان البعث، فشبه وجود الرؤية بعدمها واستعير له حرف النفي‏.‏ والمقصود‏:‏ حثهم على التأمل والتدبر ليتداركوا علمهم بما أهملوه‏.‏ وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏أفلم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 8‏]‏‏.‏

والمراد ب ‏{‏ما بين أيديهم‏}‏ ما يستقبله كل أحد منهم من الكائنات السماوية والأرضية، وب ‏{‏ما خلفهم‏}‏ ما هو وراء كل أحد منهم، فإنهم لو شاءوا لنظروا إليه بأن يلتفتوا إلى ما وراءهم، وذلك مثل أن ينظروا النصف الشمالي من الكرة السماوية في الليل ثم ينظروا النصف الجنوبي منها فيروا كواكب ساطعة بعضها طالع من مشرقه وبعضها هاو إلى مغربه وقمراً مختلف الأشكال باختلاف الأيام، وفي النهار بأن ينظروا إلى الشمس بازغة وآفلة، وما يقارن ذلك من إسفار وأصيل وشفق‏.‏ وكذلك النظر إلى جبال الأرض وبحارها وأوديتها وما عليها من أنواع الحيوان واختلاف أصنافه‏.‏

و ‏{‏من‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من السماء والأرض‏}‏ تبعيضية‏.‏

والسماء والأرض أطلقتا على محوياتهما كما أطلقت القرية على أهلها في قوله‏:‏ ‏{‏واسأل القرية‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏إن نشأ نخسف بهم الأرض‏}‏ اعتراض بالتهديد فمناسبة التعجيب الإِنكاري بما يذكرهم بقدرة صانع تلك المصنوعات العظيمة على عقاب الذين أشركوا معه غيره والذين ضيقوا واسع قدرته وكذبوا رسوله صلى الله عليه وسلم وما يخطر في عقولهم ذكر الأمم التي أصابها عقاب بشيء من الكائنات الأرضية كالخسف أو السماوية كإسقاط كسف من الأجرام السماوية مثل ما أصاب قارون من الخسف وما أصاب أهل الأيْكة من سقوط الكسف‏.‏

وقرأ الكسائي وحده «نخسبّهم» بإدغام الفاء في الباء، قال أبو علي‏:‏ وذلك لا يجوز لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء فلا تدغم الفاء في الباء، وإن كانت الباء تدغم في الفاء كقولك‏:‏ اضرب فلاناً، وهذا كما تدغم الباء في الميم كقولك‏:‏ اضرب مالكاً، ولا تدغم الميم في الباء كقولك‏:‏ اضمم بكراً، لأن الباء انحطت عن الميم بفقد الغثة التي في الميم، وهذا رد للرواية بالقياس وهو غصْب‏.‏

والكِسف بكسر الكاف وسكون السين في قراءة الجمهور، وهو القطعة من الشيء‏.‏

وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً‏}‏ في سورة الإِسراء ‏(‏92‏)‏‏.‏

وقرأ الجمهور نخسف‏}‏ و‏{‏نسقط‏}‏ بنون العظمة‏.‏ وقرأها حمزة والكسائي وخلف بياء الغائب على الالتفات من مقام التكلم إلى مقام الغيبة، ومعاد الضميرين معروف من سياق الكلام‏.‏

وجملة ‏{‏إن في ذلك لآية لكل عبد منيب‏}‏ تعليل للتعجيب الإِنكاري باعتبار ما يتضمنه من الحث على التأمل والتدبر كما تقدم آنفاً، فموقع حرف التوكيد هنا لمجرد التعليل، كقول بشار‏:‏

إنّ ذاك النجاحَ في التبكير ***

ولك أن تجعل تذييلاً‏.‏ والمشار إليه هو ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض، أي من الكائنات فيهما‏.‏

والآية‏:‏ الدليل والتعريف للجنس، فالمفرد المعرّف مساو للجمع، أي لآيات كثيرة‏.‏

والمنيب‏:‏ الراجع بفكره إلى البحث عما فيه كماله النفساني وحسن مصيره في الآخرة فهو يقدّر المواعظ حقّ قدرها ويتلقّاها بالشك في الحالة التي وعظ من أجلها فيعاود النظر حتى يهتدي ولا يرفض نصح الناصحين وإرشاد المرشدين مرتدياً برداء المتكبرين فهو لا يخلو من النظر في دلائل قدرة الله، ومن أكبر المنيبين المؤمنون مع رسولهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 11‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ‏(‏10‏)‏ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

مناسبة الانتقال من الكلام السابق إلى ذكر داود خفيَّة‏.‏ فقال ابن عطية‏:‏ ذكر الله نعمته على داود وسليمان احتجاجاً على ما منح محمداً، أي لا تستبعدوا هذا فقد تفضلنا على عبيدنا قديماً‏.‏

وقال الزمخشري عند قوله‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآية لكل عبد منيب‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 9‏]‏ لأن المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله على أنه قادر على كلّ شيء من البعث ومن عقاب من يكفر به ا ه‏.‏ فقال الطيبي‏:‏ فيه إشارة إلى بيان نظم هذه الآية بقوله‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا داود منا فضلاً‏}‏ لأنه كالتخلص منه إليه، لأنه من المنيبين المتفكرين في آيات الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 17‏]‏ ا ه‏.‏ يريد الطيبي أن داود من أشهر المُثُل في المنيبين بما اشتهر به من انقلاب حاله بعد أن كان راعياً غليظاً إلى أن اصطفاه الله نبيئاً وملكاً صالحاً مُصْلِحاً لأمة عظيمة، فهو مَثَل المنيبين كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏فاستغفر ربه وخرّ راكعاً وأناب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 24‏]‏، فلإِنابته وتأويبه أنعم الله عليه بنعم الدنيا والآخرة وباركه وبارك نسله‏.‏ وفي ذكر فضله عبرة للناس بحسن عناية الله بالمنيبين تعريضاً بضد ذلك للذين لم يعتبروا بآيات الله، وفي هذا إيماء إلى بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه بعد تكذيب قومه وضيق حاله منهم سيؤول شأنه إلى عزة عظيمة وتأسيس ملك أمة عظيمة كما آلت حال داود، وذلك الإِيماء أوضح في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أوّاب‏}‏ الآية في سورة ص ‏(‏17‏)‏‏.‏ وسمَّى الطيبي هذا الانتقال إلى ذكر داود وسليمان تخلصاً، والوجه أن يسميه استطراداً أو اعتراضاً وإن كان طويلاً، فإن الرجوع إلى ذكر أحوال المشركين بعدما ذكر من قصة داود وسليمان وسبأ يرشد إلى أن إبطال أحوال أهل الشرك هي المقصود من هذه السورة كما سننبه عليه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد صدق عليهم إبليس ظنه‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 20‏]‏‏.‏

وتقديم التعريف بداود عليه السلام عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتينا داود زبوراً‏}‏ في سورة النساء ‏(‏163‏)‏ وعند قوله‏:‏ ‏{‏ومن ذريته داود‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏84‏)‏‏.‏

و ‏(‏مِنْ‏)‏ في قوله‏:‏ منا‏}‏ ابتدائية متعلقة ب ‏{‏آتينا‏}‏، أي من لدنّا ومن عندنا، وذلك تشريف للفضل الذي أوتيه داود، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏رزقاً من لدنا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 57‏]‏‏.‏ وتنكير ‏{‏فضلاً‏}‏ لتعظيمه وهو فضل النبوءة وفضل المُلك، وفضل العناية بإصلاح الأمة، وفضل القضاء بالعدل، وفضل الشجاعة في الحرب، وفضل سَعَة النعمة عليه، وفضل إغنائه عن الناس بما ألهمه من صنع دروع الحديد، وفضل إيتائه الزبور، وإيتائه حسن الصوت، وطولَ العمر في الصلاح وغير ذلك‏.‏

وجملة ‏{‏يا جبال أوبي معه‏}‏ مقول قول محذوف، وحذف القول استعمال شائع، وفعل القول المحذوف جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لجملة ‏{‏آتينا داود منا فضلاً‏}‏‏.‏

وفي هذا الأسلوب الذي نظمت عليه الآية من الفخامة وجلالة الخالق وعظم شأن داود مع وفرة المعاني وإيجاز الألفاظ وإفادة معنى المعية بالواو دون ما لو كانت حرف عطف‏.‏

والأمر في ‏{‏أوبي معه‏}‏ أمر تكوين وتسخير‏.‏

والتأويب‏:‏ الترجيع، أي ترجيع الصوت، وقيل‏:‏ التأويب بمعنى التسبيح لغة حبشية فهو من المعرب في اللغة العربية، وتقدم ذكر تسبيح الجبال مع داود في سورة الأنبياء‏.‏

و ‏{‏الطير‏}‏ منصوب بالعطف على المنادَى لأن المعطوف المعرَّف على المنادى يجوز نصبُه ورفعه، والنصب أرجح عند يونس وأبي عمرو وعيسى بن عمر والجَرْميّ وهو أوجه، ويجوز أن يكون ‏{‏والطير‏}‏ مفعولاً معه ل ‏{‏أوبي‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ أوبي معه ومع الطير، فيفيد أن الطير تأوّب معه أيضاً‏.‏

وإلانة الحديد‏:‏ تسخيره لأصابعه حينما يلوي حَلَق الدروع ويغمز المسامير‏.‏

و ‏{‏أنْ‏}‏ تفسيرية لما في ‏{‏ألنا له‏}‏ من معنى‏:‏ أشعرناه بتسخير الحديد ليُقدم على صنعه فكان في ‏{‏ألنا‏}‏ معنى‏:‏ وأوحينا إليه‏:‏ ‏{‏أن اعمل سابغات‏}‏‏.‏

و ‏{‏الحديد‏}‏ تراب معدني إذا صُهر بالنار امتزج بعضه ببعض ولاَنَ وأمكن تطريقه وتشكيله فإذا برد تصلب‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل كونوا حجارة أو حديداً‏}‏ في سورة الإِسراء ‏(‏50‏)‏‏.‏

وسابغات‏}‏ صفة لموصوف محذوف لظهوره من المقام إذ شاع وصف الدروع بالسابغات والسوابغ حتى استغنوا عند ذكر هذا الوصف عن ذكر الموصوف‏.‏

ومعنى ‏{‏قَدِّر‏}‏ اجعله على تقدير، والتقدير‏:‏ جعل الشيء على مقدار مخصوص‏.‏

و ‏{‏السَّرْد‏}‏ صنع درع الحديد، أي تركيب حلقها ومساميرها التي تَشُدّ شقق الدرع بعضها ببعض فهي للحديد كالخياطة للثوب، والدِرع توصف بالمسرودة كما توصف بالسابغة‏.‏ قال أبو ذؤيب الهذلي‏:‏

وعليهما مَسرودتان قضاهما *** داوُد أو صَنَعُ السوابغ تُبَّعُ

ويقال لناسج الدروع‏:‏ سَرَّاد وزرّاد بالسين والزاي، وقال المعري يصف درعاً‏:‏

وداوُد قين السابغات أذالها *** وتلك أضاة صانها المرء تبع

فلما سخر الله له ما استصعب على غيره أتبعه بأمره بالشكر بأن يعمل صالحاً لأن الشكر يكون بالعمل الذي يرضي المشك والمنعم‏.‏

وضمير ‏{‏اعملوا‏}‏ لداود وآله كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 132‏]‏ أو له وحده على وجه التعظيم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إني بما تعملون بصير‏}‏ موقع «إن» فيه موقع فاء التسبب كقول بشار‏:‏

إن ذاك النجاحَ في التبكير ***

وقد تقدم غير مرة‏.‏

والبصير‏:‏ المطلع العليم، وهو هنا كناية عن الجزاء عن العمل الصالح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ‏(‏12‏)‏‏}‏

عطف فضيلة سليمان على فضيلة داود للاعتبار بما أوتيه سليمان من فضل كرامةً لأبيه على إنابته ولسليمان على نشأته الصالحة عند أبيه، فالعطف على ‏{‏لقد آتينا داود منا فضلاً‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 10‏]‏ والمناسبة مثل مناسبة ذكر داود فإن سليمان كان موصوفاً بالإِنابة قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أناب‏}‏ في سورة ص ‏(‏34‏)‏‏.‏

والريح‏}‏ عطف على ‏{‏الحديد‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وألنا له الحديد‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 10‏]‏ بتقدير فعل يدل عليه ‏{‏وألنا‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ وسخرنا لسليمان الريح على نحو قول الشاعر‏:‏

مُتَقَلِّداً سيفاً ورُمْحاً ***

أي وحاملاً رمحاً‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لسليمان‏}‏ لام التقوية أنه لما حذف الفعل لدلالة ما تقدم عليه قرن مفعوله الأول بلام التقوية لأن الاحتياج إلى لام التقوية عند حذف الفعل أشد من الاحتياج إليها عند تأخير الفعل عن المفعول‏.‏ و‏{‏الريح‏}‏ مفعول ثان‏.‏

ومعنى تسخيره الريح‏:‏ خلق ريح تلائم سيرَ سفائنه للغزو أو التجارة، فجعل الله لمراسيه في شطوط فلسطين رياحاً موسمية تهبّ شهراً مشرّقة لتذهب في ذلك الموسم سفنه، وتهبّ شهراً مغرّبة لترجع سفنه إلى شواطئ فلسطين كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها‏}‏ في سورة الأنبياء ‏(‏81‏)‏‏.‏

فأطلق الغدوّ على الانصراف والانطلاق من المكان تشبيهاً بخروج الماشية للرعي في الصباح وهو وقت خروجها، أو تشبيهاً بغدّو الناس في الصباح‏.‏

وأطلق الرواح على الرجوع من النهمة التي يخرج لها كقول ابن أبي ربيعة‏:‏

أمِن آللِ نعم أنتَ غاد فمُبكِرُ *** غداةَ غَدٍ أمْ رائح فمؤخِّرُ

لأن عرفهم أن رواح الماشية يكون في المساء فهو مشتق من راح إذا رجع إلى مقره‏.‏

وقرأ الجمهور ولسليمان الريح‏}‏ بلفظ إفراد ‏{‏الريح‏}‏ وبنصب ‏{‏الريح‏}‏ على أنه معطوف على ‏{‏الحديد‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وألنا له الحديد‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وقرأ أبو بكر عن عاصم برفع ‏{‏الريحُ‏}‏ على أنه من عطف الجمل و‏{‏الريحُ‏}‏ مبتدأ و‏{‏لسليمان‏}‏ خبر مقدم‏.‏ وقرأه أبو جعفر ‏{‏الرياح‏}‏ بصيغة الجمع منصوباً‏.‏

و ‏{‏القِطْر‏}‏ بكسر القاف وسكون الطاء النحاس المُذاب‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال آتوني أفرغ عليه قطراً‏}‏ في سورة الكهف ‏(‏96‏)‏‏.‏

والإِسالة‏:‏ جعل الشيء سائلاً، أي مائعاً منبطحاً في الأرض كمسيل الوادي‏.‏ وعين القطر‏}‏ ليست عيناً حقيقة ولكنها مستعارة لمصب ما يصهر في مصانعه من النحاس حتى يكون النحاس المذاب سائلاً خارجاً من فساقي ونحوها من الأنابيب كما يخرج الماء من العين لشدة إصهار النحاس وتَوالي إصهاره فلا يزال يسيل ليصنع له آنية وأسلحة ودَرقاً، وما ذلك إلا بإذابة وإصهار خارقيْن للمعتاد بقوة إلهية، شبه الإِصهار بالكهرباء أو بالألسنة النارية الزرقاء، وذلك ما لم يؤته مَلك من ملوك زمانه‏.‏

ويجوز أن يكون السيلان مستعاراً لكثرة القِطر كثرة تشبه كثرة ماء العيون والأنهار كقول كُثيّر‏:‏

وسالتْ بأعناق المَطي الأباطح ***

ويكون ‏{‏أسلنا‏}‏ أيضاً ترشيحاً لاستعارة اسم العين لمعنى مُذاب القطر، ووجه الشبه الكثرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ومن الجن من يعمل بين يديه‏}‏ يجوز أن يكون عطفاً على جملة ‏{‏وأسلنا له عين القطر‏}‏ فقوله‏:‏ ‏{‏من يعمل بين يديه‏}‏ مبتدأ وقوله‏:‏ ‏{‏بإذن ربّه‏}‏ خبر‏.‏ و‏{‏من‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من الجن‏}‏ بيان لإِبهام ‏{‏مَن‏}‏ قدم على المبيَّن للاهتمام به لغرابته، وهو في موضع الحال‏.‏ ولك أن تجعل ‏{‏من يعمل‏}‏ عطفاً على ‏{‏الريح‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ولسليمان الريح‏}‏ أي سَخرنا له من يعمل بين يديه من الجن، وتجعلَ جملة ‏{‏وأسلنا له عين القطر‏}‏ معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه‏.‏

ومعنى ‏{‏يعمل بين يديه‏}‏ يخدمه ويطيعه‏.‏ يقال‏:‏ أنا بين يديك، أي مطيع، ولا يقتضي هذا أن يكون عملتُه الجنّ وحدهم بل يقتضي أن منهم عملة، وفي آية النمل ‏(‏17‏)‏ ‏{‏من الجن والإِنس والطير‏}‏ والزيغ‏:‏ تجاوز الحد والطريق، والمعنى‏:‏ من يَعْص أمرنا الجاري على لسان سليمان‏.‏

وذِكر الجن في جند سليمان عليه السلام تقدم في سورة النمل‏.‏

و ‏{‏عذاب السعير‏}‏‏:‏ عذاب النار تشبيه، أي عذاباً كعذاب السعير، أي كعذاب جهنم، وأما عذاب جهنم فإنما يكون حقيقة يوم الحساب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ‏(‏13‏)‏‏}‏

و ‏{‏يعملون له ما يشاء‏}‏ جملة مبينة لجملة ‏{‏يعمل بين يديه‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 12‏]‏‏.‏

و ‏{‏من محاريب‏}‏ بيان ل ‏{‏ما يشاء‏}‏‏.‏

والمحاريب‏:‏ جمع محراب، وهو الحصن الذي يحارب منه العدوُّ والمهاجِم للمدينة، أو لأنه يرمى من شرفاته بالحِراب، ثم أطلق على القصر الحصين‏.‏ وقد سمَّوْا قصور غُمدان في اليمن محاريبَ غُمدانَ‏.‏ وهذا المعنى هو المراد في هذه الآية‏.‏ ثم أطلق المحراب على الذي يُخْتَلَى فيه للعبادة فهو بمنزلة المسجد الخاص، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب‏}‏ وتقدم في سورة آل عمران ‏(‏39‏)‏‏.‏ وكان لداود محراب يجلس فيه للعبادة قال تعالى‏:‏ ‏{‏وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب‏}‏ في سورة ص ‏(‏21‏)‏‏.‏

وأما إطلاق المحراب على الموضع من المسجد الذي يقف فيه الإِمامُ الذي يؤمّ الناس، يُجعل مثل كوة غير نافذة واصلة إلى أرض المسجد في حائط القبلة يقف الإِمام تحته، فتسمية ذلك محراباً تسمية حديثة ولم أقف على تعيين الزمن الذي ابتدئ فيه إطلاق اسم المحراب على هذا الموقف‏.‏ واتخاذ المحاريب في المساجد حدث في المائة الثانية، والمظنون أنه حدث في أولها في حياة أنس بن مالك لأنه روي عنه أنه تنزه عن الجلوس في المحاريب وكانوا يسمونه الطاقَ أو الطاقَة، وربما سموه المذبح، ولم أر أنهم سموه أيامئذ محراباً، وإنما كانوا يسمون بالمحراب موضع ذبح القربان في الكنيسة، قال عُمر بن أبي ربيعة‏:‏

دُمية عند راهب قسيس *** صوَروها في مذابح المحراب

والمذبح والمحراب مقتبسة من اليهود لما لا يخفى من تفرع النصرانية عن دين اليهودية‏.‏

وما حكي عن أنس بن مالك إن صحّ فإنما يُعنى به بيت للصلاة خاص‏.‏ ورأيت إطلاق المحراب على الطاقة التي في المسجد في كلام الفَراء، أي في منتصف القرن الثاني، نقل الجوهري عنه أنه قال‏:‏ المحاريب صدور المجالس ومنه سمي محرابُ المسجد، لأن المحراب لم يبق حينئذٍ مطلقاً على مكان العبادة‏.‏

ومن الغلط أن جعلوا في المسجد النبوي في الموضع الذي يقرَّب أن يكون النبي يصلي فيه صورَة محراب منفصل يسمونه محراب النبي وإنما هو علامة على تحري موقفه‏.‏

والذي يظهر أن المسلمين ابتدأوا فجعلوا طاقات صغيرة علامة على القبلة لئلا يضل الداخل إلى المسجد يريد الصلاة فإن ذلك يقع كثيراً، ثم وسعوها شيئاً فشيئاً حتى صيروها في صورة نصف دهليز صغير في جدار القبلة يسع موقف الإِمام، وأحسب أن أول وضعه كان عند بناء المسجد الأموي في دمشق، ثم إن الخليفة الوليد بن عبد الملك أمر بجعله في المسجد النبوي حين وسّعه وأعاد بناءه، وذلك في مدة إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة حسبما ذكر السمهودي في كتاب خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى‏}‏‏.‏

والتماثيل‏:‏ جمع تِمثال بكسر التاء، ووزنه تِفعال لأن التاء مزيدة وهو أحد أسماء معدودة جاءت على وزن تِفعال بكسر التاء، وأما قياس هذا الباب وأكثرُه فهو بفتح التاء‏.‏ والأسماء التي جاءت على هذا الوزن منها مصادر ومنها أسماء، فأما المصادر فأكثرها بفتح التاء إلا مصدرين‏:‏ تبيان، وتلقاء بمعنى اللقاء‏.‏ وأما الأسماء فورد منها على الكسر نحو من أربعة عشر اسماً منها‏:‏ تِمثال، أحصاها ابن دريد، وزاد ابن العربي في «أحكام القرآن» عن شيخه الخطيب التبريزي تسعة فصارت خمسة وعشرين‏.‏ والتمثال هو الصورة الممثلة، أي المجسمة مثل شيء من الأجسام فكان النحاتون يعملون لسليمان صوراً مختلفة كصور موهومة للملائكة وللحيوان مثل الأسود، فقد كان كرسي سليمان محفوفاً بتماثيل أُسود أربعة عشر كما وصف في الإِصحاح العاشر من سفر الملوك الأول‏.‏ وكان قد جَعل في الهيكل جابية عظيمة من نحاس مصقول مرفوعة على اثنتي عشرة صورة ثور من نحاس‏.‏

ولم تكن التماثيل المجسمة محرَّمَة الاستعمال في الشرائع السابقة، وقد حرمها الإِسلام لأن الإِسلام أمعن في قطع دَابر الإِشراك لشدة تمكن الإِشراك من نفوس العرب وغيرهم‏.‏ وكان معظم الأصنام تماثيل فحرّم الإِسلام اتخاذها لذلك، ولم يكن تحريمها لأجل اشتمالها على مفسدة في ذاتها ولكن لكونها كانت ذريعة للإِشراك‏.‏ واتفق الفقهاء على تحريم اتخاذ ما له ظلّ من تماثيل ذوات الروح إذا كانت مستكملة الأعضاء التي لا يعيش ذو الروح بدونها وعلى كراهة ما عدا ذلك مثل التماثيل المنصفة ومثل الصور التي على الجدران وعلى الأوراق والرقم في الثوب ولا ما يجلس عليه ويداس‏.‏ وحكم صنعها يتبع اتخاذها‏.‏ ووقعت الرخصة في اتخاذ صور تلعب بها البنات لفائدة اعتيادهن العمل بأمور البيت‏.‏

والجفان‏:‏ جمع جفنة، وهي القصعة العظيمة التي يجفن فيها الماء‏.‏ وقدرت الجفنة في التوراة بأنها تسع أربعين بَثَّا ‏(‏بالمثلثة‏)‏ ولم نعرف مقدار البث عندهم ولا شك أنه مكيال‏.‏ وشبهت الجفان في عظمتها وسعتها بالجوابي‏.‏ وهي جمع‏:‏ جابية وهي الحوض العظيم الواسع العميق الذي يجمع فيه الماء لسقي الأشجار والزروع، قال الأعشى‏:‏

نفي الذم عن رهط المحلَّق جفنة *** كجابية الشيخ العراقي تَفْهَق

أي الجفنة في سعتها كجابية الرجل العراقي، وأهل العراق أهل كروم وغروس فكانوا يجمعون الماء للسقي‏.‏

وكانت الجفان المذكورة في الهيكل المعروف عندنا بيت المقدس لأجل وضع الماء ليغلسوا فيها ما يقربونه من المحرَقات كما في الإِصحاح الرابع من سفر الأيام الثاني‏.‏

وكتب في المصحف ‏{‏كالجواب‏}‏ بدون ياء بعد الموحدة‏.‏ وقرأه الجمهور بدون ياء في حالي الوصل والوقف‏.‏ وقرأه ابن كثير بإثبات الياء في الحالين‏.‏ وقرأ ورش عن نافع وأبو عمرو بإثبات الياء في حال الوصل وبحذفها في حال الوقف‏.‏

والقدور‏:‏ جمع قِدر وهي إناء يوضع فيه الطعام ليطبخ من لحم وزيت وأدهان وتوابل‏.‏

قال النابغة في النعمان بن الحارث الجُلاحي‏:‏

له بِفناء البيت سوداء فخمة *** تلقَّم أوصال الجَزور العُراعر

بقية قِدر من قُدور تُورثت *** لآل الجلاح كابراً بعد كابر

أي تَسَع قوائم البعير إذا وضعت فيه لتطبخ مَرقاً ونحوه‏.‏

وهذه القدور هي التي يطبخ فيها لجند سليمان ولسدنة الهيكل ولخدمه وأتباعه وقد ورد ذكر القدور إجمالاً في الفقرة السادسة عشرة من الإصحاح الرابع من سفر الأيام الثاني‏.‏

والراسيات‏:‏ الثابتات في الأرض التي لا تُنزل من فوق أثافيها لتداول الطبخ فيها صباحَ مساءَ‏.‏

وجملة ‏{‏اعملوا آل داود شكراً‏}‏ مقول قول محذوف، أي قلنا‏:‏ اعملوا يا آل داود، ومفعول ‏{‏اعملوا‏}‏ محذوف دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏شكراً‏}‏‏.‏ وتقديره‏:‏ اعملوا صالحاً، كما تقدم آنفاً، عملاً لشكر الله تعالى، فانتصب ‏{‏شكراً‏}‏ على المفعول لأجله‏.‏ والخطاب لسليمان وآله‏.‏

وذُيل بقوله‏:‏ ‏{‏وقليل من عبادي الشكور‏}‏ فهو من تمام المقول، وفيه حثّ على الاهتمام بالعمل الصالح‏.‏ ويجوز أن يكون هذا التذييل كلاماً جديداً جاء في القرآن، أي قلنا ذلك لآل داود فعَمل منهم قليل ولم يعمل كثير وكان سليمان من أول الفئة القليلة‏.‏

و ‏{‏الشكور‏}‏‏:‏ الكثيرُ الشكر‏.‏ وإذْ كان العمل شكراً أفاد أن العاملين قليل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

تفريع على قوله‏:‏ ‏{‏ومن الجن من يعمل بين يديه‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وقدور راسيات‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 12، 13‏]‏ أي دام عملهم له حتى مات ‏{‏فلما قضينا عليه الموت‏}‏ إلى آخره‏.‏ ولا شك أن ذلك لم يطل وقتُه لأن مثله في عظمةِ ملكه لا بد أن يفتقده أتباعُه، فجملة ‏{‏ما دلهم على موته‏}‏ الخ جواب «لمَّا قضينا عليه الموت»‏.‏

وضمير ‏{‏دلهم‏}‏ يعود إلى معلوم من المقام، أي أهلَ بَلاطه‏.‏

والدلالة‏:‏ الإِشْعار بأمر خفيّ‏.‏ وتقدم ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 7‏]‏‏.‏

و ‏{‏دابة الأرض‏}‏ هي الأَرَضَة ‏(‏بفتحات ثلاث‏)‏ وهي السُّرْفة بضم السين وسكون الراء وفتح الفاء لا محالة وهاء تأنيث‏:‏ سوس ينخر الخشب‏.‏ فالمراد من الأرض مصدرُ أَرَضَت السُّرفَة الخَشَبَ من باب ضَرب، وقد سخر الله لمنساة سليمان كثيراً من السُرْف فتعَجَّل لها النخر‏.‏

وجملة ‏{‏فلما خر‏}‏ مفرعة على جملة ‏{‏ما دلهم على موته‏}‏‏.‏ وجملة ‏{‏تبينت الجن‏}‏ جواب «لمّا خرّ»‏.‏ والمِنساة بكسر الميم وفتحها وبهمزة بعد السين، وتخفَّفُ الهمزة فتصير ألفاً هي العَصا العظيمة، قيل‏:‏ هي كلمة من لغة الحبشة‏.‏

وقرأ نافع وأبو عَمرو بألف بعد السين‏.‏ وقرأه ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف وهشام عن ابن عامر بهمزة مفتوحة بعد السين‏.‏ وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر بهمزة ساكنة بعد السين تخفيفاً وهو تخفيف نادر‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تبينت الجن‏}‏ بفتح الفوقية والموحدة والتحتية‏.‏ وقرأه رُويس عن يعقوب بضم الفوقية والموحدة وكسر التحتية بالبناء للمفعول، أي تبين الناس الجنّ‏.‏ و‏{‏أن لو كانوا يعلمون‏}‏ بدل اشتمال من الجن على كلتا القراءتين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏تبينت الجن‏}‏ إسنادُ مُبهم فصَّله قوله‏:‏ ‏{‏أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين‏}‏ ف ‏{‏أَن‏}‏ مصدرية والمصدر المنسبك منها بدل من ‏{‏الجن‏}‏ بدلَ اشتمال، أي تبينت الجنُّ للناس، أي تبين أمرهم أنهم لا يعلمون الغيب، أي تبين عدم علمهم الغيب، ودليل المحذوف هو جملة الشرط والجواب‏.‏

و ‏{‏العذاب المهين‏}‏‏:‏ المذل، أي المؤلم المتعب فإنهم لو علموا الغيب لكان علمهم بالحاصل أزَليًّا، وهذا إبطال لاعتقاد العامة يومئذٍ وما يعتقده المشركون أن الجن يعلمون الغيب فلذلك كان المشركون يستعلِمون المغيبات من الكهان، ويزعمون أن لكل كاهن جِنِّيًّا يأتيه بأخبار الغيب، ويسمونه رَئيًّا إذ لو كانوا يعلمون الغيب لكان أن يعلموا وفاة سليمان أهونَ عليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ‏(‏15‏)‏‏}‏

جرَّ خبرُ سليمان عليه السلام إلى ذكر سبأ لما بين مُلك سليمان وبين مملكة سبأ من الاتصال بسبب قصة «بلقيس»، ولأن في حال أهل سبأ مضادة لأحوال داود وسليمان، إذ كان هذان مثلاً في إسباغ النعمة على الشاكرين، وكان أولئك مثلاً لسلب النعمة عن الكافرين، وفيهم موعظة للمشركين إذ كانوا في بحبوحة من النعمة فلما جاءهم رسول من المُنعِم عليهم يذكرهم بربهم ويوقظهم بأنهم خاطئون إذ عبدوا غيره، كذّبوه وأعرضوا عن النظر في دلالة تلك النعمة على المنعِم المتفرد بالإلهية‏.‏

وقال ابن عطية عند الكلام على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا داود منا فضلاً‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 10‏]‏ «لمّا فرغ التمثيل لمحمد صلى الله عليه وسلم رجع التمثيل لهم ‏(‏أي للمشركين أي لحالهم‏)‏ بسبإ وما كان من هلاكهم بالكفر والعتوّ» ا ه‏.‏ فهذه القصة تمثيل أمة بأمة، وبلاد بأخرى، وذلك من قياس وعبرِه‏.‏ وهي فائدة تدوين التاريخ وتقلبات الأمم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم اللَّه فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 112، 113‏]‏ فسوَق هذه القصة تعريض بأشباه سبأ‏.‏ والمعنى‏:‏ لقد كان لسبأ في حال مساكنهم ونظام بلادهم آية‏.‏ والآية هنا‏:‏ الأمارة والدلالة بتبدل الأحوال وتقلب الأزمان، فهي آية على تصرف الله ونعمته عليهم فلم يهتدوا بتلك الآية فأشركوا به، وقد كان في إنعامه عليهم ما هو دليل على وجوده ثم على وحدانيته‏.‏

والتأكيد بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المخاطبين بالتعريض بهذه القصة منزلةَ من يتردد في ذلك لعدم اتعاظهم بحال قوم من أهل بلادهم، وتجريد ‏{‏كان‏}‏ من تأنيث الفعل لأن اسمها غير حقيقي للتأنيث ولوقوع الفصل بالمجرور‏.‏

واللام في ‏{‏لسبأ‏}‏ متعلق ب ‏{‏آية‏}‏‏.‏ والمساكن‏:‏ البلاد التي يسكنونها بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏جنتان عن يمين وشمال‏}‏ والمساكن‏:‏ ديار السكنى‏.‏ وتقدم الكلام على سبأ عند قوله‏:‏ ‏{‏وجئتك من سبأ‏}‏ في سورة النمل ‏(‏22‏)‏‏.‏

واسم سبأ يطلق على الأمة كما هنا وعلى بلادهم كما في آية النمل وتقدم تفصيله‏.‏

وقرأ الجمهور في مساكنهم‏}‏ بصيغة جمع مسكن‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وحفص وخلف بلفظ المفرد ‏{‏في مسكنهم‏}‏ إلا أن حمزة وحفصاً فتَحَا الكاف، والكسائي وخلف كسرا الكاف وهو خارج عن القياس لأنه مضارع غير مكسور العين فحق اسم المكان منه فتح العين‏.‏ وشذ نحو قولهم‏:‏ مسجد لبيت الصلاة‏.‏

و ‏{‏جنتان‏}‏ بدل من ‏{‏آية‏}‏ باعتبار تكملته بما اتصل به من المتعلق والقول المقدر‏.‏

و ‏{‏جنتان‏}‏ تشبيه بليغ، أي في مساكنهم شبيه جنتين في أنه مغترس أشجاراً ذاتتِ ثمر متصل بعضها ببعض مثل ما يعرف من حال الجنات، وتثنية جنتين باعتبار أن ما على يمين السَّائر كجنة، وما على يسَاره كجنة‏.‏

وقيل‏:‏ كان لكل رجل منهم في مَسكنه، أي داره جنتان جنة عن يمين المسكن وجنة عن شماله فكانوا يتفيؤون ظِلالهما في الصباح والمساء ويجتنون ثمارهما من نخيل وأعناب وغيرها، فيكون معنى التركيب على التوزيع، أي‏:‏ لكل مسكن جنتان، كقولهم‏:‏ ركِب القومُ دوابهم، وهذا مناسب لقوله‏:‏ ‏{‏في مساكنهم‏}‏ دون أن يقول في بلادهم، أو ديارهم، ويجوز أن يكون المراد أن مدينتهم وهي مأرب كانت محفوفة على يمينها وشمالها بغابة من الجنات يصطافون فيها ويستثمروها مثل غوطة دمشق، وهذا يناسب قوله بعدُ ‏{‏وبدلناهم بجنتيهم جنتين‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 16‏]‏ لأن ظاهره أن المبدل به جنتان اثنتان، إلا أن تجعله على التوزيع من مقابلة المتعدد بالمتعدد‏.‏

والمعنى‏:‏ أنهم كانوا أهل جنّات مغروسة أشجاراً مثمرة وأعناباً‏.‏

وكانت مدينتهم مأرب ‏(‏بهمزة ساكنة بعد الميم‏)‏ وهي بين صنعاء وحضرموت، قبل، كان السائر في طرائقها لو وضع على رأسه مكتلاً لوجده قد ملئ ثماراً مما يسقط من الأشجار التي يسير تحتها‏.‏ ولعل في هذا القول شيئاً من المبالغة إلا أنها تؤذن بوفرة‏.‏ وكان ذلك بسبب تدبير ألهمهم الله إياه في اختزان المياه النازلة في مواسم المطر بما بنوا من السد العظيم في مأرب‏.‏

وجملة ‏{‏كلوا من رزق ربكم‏}‏ مقول قول إما من دلالة لسان الحال كما في قوله‏:‏

امتلأ الحوض وقال قَطْني ***

وإما أُبلغوه على ألسنة أنبياء بعثوا منهم، قيل‏:‏ بعث فيهم اثنا عشر نبيئاً، أي مثل تُبع أسعد، فقد نقل أنه كان نبيئاً كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقوم تبع‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 14‏]‏ أو غيره، قال تعالى‏:‏ ‏{‏منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 78‏]‏، أو من غيرهم مما قاله سليمان بلقيس أو مما قاله الصالحون من رسل سليمان إلى سبأ، وفي جعل ‏{‏جنتان‏}‏ في نظم الكلام بدلاً عن آية كناية عن طيب تربة بلادهم‏.‏ قيل‏:‏ كانوا يزرعون ثلاث مرات في كل عام‏.‏

والطيِّبة‏:‏ الحسنة في جنسها الملائمة لمزاولها ومستثمرها قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 22‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏فلنحيينه حياة طيبة‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 97‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 58‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏رب هب لي من لدنك ذرية طيبة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وفي حديث أبي طلحة في صدقته بحائط ‏(‏بئرحاء‏)‏‏:‏ «وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب»‏.‏ والطيّب ضد الخبيث قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 2‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏‏.‏

واشتقاقه من الطِيب بكسر الطاء بوزن فِعْل وهو الشيء الذي تعبق منه رائحة لذيذة‏.‏

وجملة ‏{‏بلدة طيبة‏}‏ من تمام القول وهي مستأنفة في الكلام المقول، أي بلدةٌ لكم طيبة، وتنكير ‏{‏بلدة‏}‏ للتعظيم‏.‏ و‏{‏بلدة‏}‏ مبتدأ و‏{‏طيبة‏}‏ نعت ل ‏{‏بلدة‏}‏، وخبره محذوف، تقديره‏:‏ لكم، وعُدل عن إضافة ‏{‏بلدة‏}‏ إلى ضميرهم لتكون الجملة خفيفة على اللسان فتكون بمنزلة المثَل‏.‏

وجملة ‏{‏ورب غفور‏}‏ عطف على جملة ‏{‏بلدة طيبة‏}‏‏.‏

وتنكير ‏{‏رب‏}‏ للتعظيم‏.‏ وهو مبتدأ محذوف الخبر على وزان ‏{‏بلدة طيبة‏}‏، والتقدير‏:‏ ورب لكم، أي ربكم غفور‏.‏

والعدول عن إضافة ‏{‏رب‏}‏ لضمير المخاطبين إلى تنكير ‏{‏رب‏}‏ وتقديرِ لام الاختصاص لقصد تشريفهم بهذا الاختصاص ولتكون الجملة على وزان التي قبلها طلباً للتخفيف ولتحصل المزاوجة بين الفقرتين فتسيرا مسير المثل‏.‏

ومعنى ‏{‏غفور‏}‏‏:‏ متجاوز عنكم، أي عن كفرهم الذي كانوا عليه قبل إيمان ‏(‏بلقيس‏)‏ بدين سليمان عليه السلام، ولا يُعلم مقدار مدة بقائهم على الإِيمان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ‏(‏16‏)‏‏}‏

تفريع على قوله‏:‏ ‏{‏واشكروا له‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 15‏]‏ وقع اعتراضاً بين أجزاء القصة التي بقيتها قوله‏:‏ ‏{‏وجعلنا بينهم وبين القرى‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 18‏]‏ الخ‏.‏ وهو اعتراض بالفاء مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار‏}‏ وتقدم في سورة الأنفال ‏(‏14‏)‏‏.‏

والإِعراض يقتضي سبق دعوة رسول أو نبيء، والمعنى‏:‏ أعرضوا عن الاستجابة لدعوة التوحيد بالعود إلى عبادة الشمس بعد أن أقلعوا في زمن سليمان وبلقيس، فلعل بلقيس كانت حولتهم من عبادة الشمس فقد كانت الأمم تتبع أديان ملوكهم، وقد قيل إن بلقيس لم تعمر بعد زيارة سليمان إلا بضع سنين‏.‏

والإِرسال‏:‏ الإطلاق وهو ضد الحبس، وتعديته بحرف ‏(‏على‏)‏ مؤذنة بأنه إرسال نقمة فإن سيل العرم كان محبوساً بالسد في مأرب فكانوا يرسلون منه بمقدار ما يَسقون جناتهم، فلما كفروا بالله بعد الدعوة للتوحيد قدر الله لهم عقاباً بأن قدر أسباب انهدام السد فاندفع ما فيه من الماء فكان لهم غرقاً وإتلافاً للأنعام والأشجار، ثم أعقبه جفاف باختلال نظام تساقط الأمطار وانعدام الماء وقت الحاجة إليه، وهذا جزاء على إعراضهم وشركهم‏.‏

والعرم‏}‏ يجوز أن يكون وصفاً من العرامة وهي الشدة والكثرة فتكون إضافة «السيل» إلى ‏{‏العرم‏}‏ من إضافة الموصوف إلى الصفة‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏العرم‏}‏ اسماً للسيل الذي كان ينصبّ في السد فتكون الإِضافة من إضافة المسمى إلى الاسم، أي السيْل العرم‏.‏

وكانت للسيول والأودية في بلاد العرب أسماء كقولهم‏:‏ سيل مهزور ومذينيب الذي كانت تسقى به حدائق المدينة، ويَدل على هذا المعنى قول الأعشى‏:‏

ومأرب عفى علَيها العَرم ***

وقيل‏:‏ ‏{‏العرم‏}‏ اسم جمع عرَمَة بوزن شَجرة، وقيل لا واحد له من لفظه وهو ما بني ليمسك الماء لغة يمنية وحبشية‏.‏ وهي المسناة بلغة أهل الحجاز، والمسناة بوزن مفعلة التي هي اسم الآلة مشتق من سنيت بمعنى سَقيت، ومنه سميت الساقية سانية وهي الدلو المستقى به والإِضافة على هذين أصيلة‏.‏

والمعنى‏:‏ أرسلنا السيل الذي كان مخزوناً في السدّ‏.‏

وكان لأهل سبأ سدّ عظيم قرب بلاد مأرب يعرف بسد مأْرب ‏(‏ومأرب من كور اليمن‏)‏ وكان أعظم السداد في بلاد اليمن التي كانت فيها سداد كثيرة متفرقة وكانوا جعلوا هذه السداد لخزن الماء الذي تأتي به السيول في وقت نزول الأمطار في الشتاء والربيع ليسقوا منها المزارع والجنات في وقت انحباس الأمطار في الصيف والخريف فكانوا يعمدون إلى ممرات السيول من بين الجبال فيبنون في ممر الماء سوراً من صخور يبنونها بناء محكماً يصبون في الشقوق التي بين الصخور القَار حتى تلتئم فينحبس الماء الذي يسقط هنالك حتى إذا امتلأ الخَزَّان جعلوا بجانبيه جوابي عظيمة يصب فيها الماء الذي يفيض من أعلى السد فيقيمون من ذلك ما يستطيعون من توفير الماء المختزَن‏.‏

وكان سدّ مأرب الذي يُحفظ فيه ‏{‏سيل العرم‏}‏ شَرع في بنائه سبأ أول ملوك هذه الأمة ولم يتمه فأتمه ابنه حِمير‏.‏ وأما ما يقال من أن بلقيس بنته فذلك اشتباه إذ لعل بلقيس بنت حوله خزانات أخرى فرعية أو رممت بناءه ترميماً أطلق عليه اسم البناء، فقد كانوا يتعهدون تلك السداد بالإِصلاح والترميم كل سنة حتى تبقى تجاه قوة السيول الساقطة فيها‏.‏

وكانوا يجعلون للسد منافذ مغلقة يزيلون عنها السَّكْر إذا أرادوا إرسال الماء إلى الجنات على نوبات يرسل عندها الماء إلى الجهات المتفرقة التي تسقى منه إذ جعلوا جناتهم حول السد مجتمعة‏.‏ وكان يصب في سد مأرب سبعون وادياً‏.‏

وجعلوا هذا السد بين جبلين يعرف كلاهما بالبَلَق فهما البلَق الأَيمن والبلق الأَيسر‏.‏

وأعظم الأودية التي كانت تَصبّ فيه اسمه «إذنه» فقالوا‏:‏ إن الأودية كانت تأتي إلى سبأ من الشحْر وأودية اليمن‏.‏

وهذا السد حائط طُوله من الشرق إلى الغرب ثمانمائة ذراع وارتفاعه بضع عشرة ذراعاً وعرضه مائة وخمسون ذراعاً‏.‏

وقد شاهده الحَسَن الهمداني ووصفه في كتابه المسمى ب«الإِكليل» وهو من أهل أوائل القرن الرابع بما سمعت حاصله‏.‏ ووصفه الرحالة ‏(‏أرنو‏)‏ الفرنسي سنة 1883 والرحالة ‏(‏غلازر‏)‏ الفرنسي‏.‏

ولا يعرف وقت انهدام هذا السد ولا أسباب ذلك‏.‏ والظاهر أن سبب انهدامه اشتغال ملوكهم بحروب داخلية بينهم ألهتهم عن تفقد ترميمه حتى تخرب، أو يكون قد خربه بعض من حاربهم من أعدائهم، وأما ما يذكر في القصص من أن السد خربته الجرذان فذلك من الخرافات‏.‏

وفي ‏{‏العرم‏}‏ قال النابغة الجعدي‏:‏

من سَبَإِ الحاضرين مأرب إذ *** يبنون من دون سيله العَرِما

والتبديل‏:‏ تعويض شيء بآخر وهو يتعدى إلى المأخوذ بنفسه وإلى المبذول بالباء وهي باء العوض كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب‏}‏ في سورة النساء ‏(‏2‏)‏‏.‏

فالمعنى‏:‏ أعطيناهم أشجار خَمْط وأثْل وسِدر عوضاً عن جنتيهم، أي صارت بلادهم شَعْراء قاحلة ليس فيها إلا شجر العِضاه والبادية، وفيما بين هذين الحالين أحوال عظيمة انتابتهم فقاسوا العطش وفقدان الثمار حتى اضطروا إلى مفارقة تلك الديار، فلما كانت هذه النهاية دالة على تلك الأحوال طوي ذكر ما قبلها واقتصر على وبدّلناهم بجنتيهم جنتين ذواتيْ أكل خمط‏}‏ إلى آخره‏.‏

وإطلاق اسم الجنتين على هذه المنابت مشاكلة للتهكم كقول عمرو بن كلثوم‏:‏

قريناكم فعجلنا قِراكم *** قبيل الصُبح مِرداة طحونا

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبشرهم بعذاب أليم‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 24‏]‏‏.‏

وقد وصف الأعشى هذه الحالة بدءاً ونهاية بقوله‏:‏

وفي ذاكَ للمؤنسي عِبرة *** ومأْرب عَفى عليها العرم

رخام بنته لهم حِمير *** إذا جاء مَوَّاره لم يَرم

فأروى الزروع وأعنابها *** على سَعة ماؤهم إذا قُسم

فعاشوا بذلك في غبطة *** فحاربهم جارف منهزم

فطار القيول وقيلاتها *** ببهماء فيها سراب يطِم

فطاروا سراعاً وما يقدرو *** ن منه لشرب صُبيّ فُطِم

والخَمْط‏:‏ شَجر الأراك‏.‏ ويطلق الخمط على الشيء المُرّ‏.‏

والأثل‏:‏ شجر عظيم من شجر العضاه يشبه الطرفاء‏.‏ والسدر‏:‏ شجر من العضاه أيضاً له شَوْك يشبه شجر العناب‏.‏ وكلها تنبت في الفيافي‏.‏

والسدر‏:‏ أكثرها ظلاً وأنفعها لأنه يغسل بورقه مع الماء فينظف وفيه رائحة حسنة ولذلك وصف هنا بالقليل لإِفادة أن معظم شجرهم لا فائدة منه، وزيد تقليله قلة بذكر كلمة ‏{‏شَيء‏}‏ المؤذنة في ذاتها بالقلة‏.‏ يقال‏:‏ شيء من كذا، إذا كان قليلاً‏.‏

وفي القرآن‏:‏ ‏{‏وما أغني عنكم من الله من شيء‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 67‏]‏‏.‏

والأُكل بضم الهمزة وسكون الكاف وبضم الكاف‏:‏ المأكول‏.‏ قرأه نافع وابن كثير بضم الهمزة وسكون الكاف‏.‏ وقرأه باقي العشرة بضم الكاف‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏أكل‏}‏ بالتنوين مجروراً فإذا كان ‏{‏خمط‏}‏ مراداً به الشجر المسمّى بالخمط، فلا يجوز أن يكون ‏{‏خمط‏}‏ صفة ل ‏{‏أكل‏}‏ لأن الخمط شجر، ولا أن يكون بدلاً من ‏{‏أكل‏}‏ كذلك، ولا عطف بيان كما قدره أبو علي لأن عطف البيان كالبدل المطابق، فتعين أن يكون ‏{‏خمط‏}‏ هنا صفة يقال‏:‏ شيء خَامط إذا كان مُرًّا‏.‏

وقرأه أبو عمرو ويعقوب ‏{‏أكل‏}‏ بالإِضافة إلى ‏{‏خمط‏}‏، فالخمط إِذَن مراد به شجر الأراك، وأُكله ثمره وهو البَرير وهو مرّ الطعم‏.‏

ومعنى ‏{‏ذواتي أكل‏}‏ صاحبتي ‏{‏أُكل‏}‏ ف ‏(‏ذوات‏)‏ جمع ‏(‏ذَات‏)‏ التي بمعنى صَاحبة، وهي مؤنث ‏(‏ذو‏)‏ بمعنى صاحب، وأصل ذات ذَواة بهاء التأنيث مثل نَواة ووزنها فَعَلة بفتحتين ولامها واو، فأصلها ذَوَوَه فلما تحركت الواو إثر فتحة قلبت ألفاً ثم خففوها في حال الإِفراد بحذف العين فقالوا‏:‏ ذات فوزنها فَلَتْ أو فَلَهْ‏.‏ قال الجوهري‏:‏ أصل التاء في ذات هاء مثل نَواة لأنك إذا وقفت عليها في الواحد قلت‏:‏ ذاه بالهاء، ولكنهم لما وصلوها بما بعدها بالإِضافة صارت تاء‏.‏ ويدل لكون أصلها هاء أنه إذا صُغر يقال ذُويَّة بهاء التأنيث ا ه‏.‏ ولم يبين أيمة اللغة وجه هذا الإِبدال ولعله لكون الكلمة بنيت على حرف واحد وألف هي مَدّة الفتحة فكان النطق بالهاء بعدهما ثقيلاً في حال الوقف، ثم لما ثنّوْها ردُّوها إلى أصلها لأن التثنية تردُّ الأشياء إلى أصولها فقالوا‏:‏ ذَوَاتَا كذا، وحذفت النون للزوم إضافته، وأصله‏:‏ ذَوَيات‏.‏ فقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، ووزنه فَعَلَتَان وصار وزنه بعد القلب فعاتان وإذا جمعوها عادوا إلى الحذف فقالوا ذوات كذا بمعنى صاحبتات، وأصله ذويات فقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، فأصل وزن ذوات فَعَلاَت ثم صار وزنه بعد القلب فَعَات، وهو مما أُلحق بجمع المؤنث السالم لأن تاءه في المفرد أصلها هاء، وأما تاؤه في الجمع فهي تاء صارت عوضاً عن الهاء التي في المفرد على سُنة الجمع بألف وتاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

استئناف بياني ناشئ عن قوله‏:‏ ‏{‏فأرسلنا عليهم سيل العرم‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 16‏]‏ فهو من تمام الاعتراض‏.‏

واسم الإِشارة يجوز أن يكون في محل نصب نائباً عن المفعول المطلق المبيِّن لنوع الجزاء، وهو من البيان بطريق الإِشارة، أي جزيناهم الجزاء المشار إليه وهو ما تقدم من التبديل بجَنَّتَيْهم جنتين أخريين‏.‏ وتقديمه على عامله للاهتمام بشدة ذلك الجزاء‏.‏ واستحضاره باسم الإِشارة لما فيها من عظمة هوله‏.‏

ويجوز أن يكون اسم الإِشارة في محل رفع بالابتداء وتكون الإِشارة إلى ما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏فأرسلنا عليهم سيل العرم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏من سدر قليل‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 16‏]‏ ويكون جملة ‏{‏جزيناهم‏}‏ خبرَ المبتدأ والرابط ضمير محذوف تقديره‏:‏ جزيناهموه‏.‏

والباء في ‏{‏بما كفروا‏}‏ للسبيبة و‏(‏ما‏)‏ مصدرية، أي بسبب كفرهم‏.‏

والكفر هو الكفر بالله، أي إنكار إلهيته لأنهم عبَدةُ الشمس‏.‏

والاستفهام في ‏{‏وهل يجازى‏}‏ إنكاري في معنى النفي كما دل عليه الاستثناء‏.‏

و ‏{‏الكفور‏}‏‏:‏ الشديد الكفر لأنهم كانوا لا يعرفون الله ويعبدون الشمس فهم أسوأ حالاً من أهل الشرك‏.‏

والمعنى‏:‏ ما يُجَازَى ذلك الجزاء إلا الكفور لأن ذلك الجزاء عظيم في نوعه، أي نوع العقوبات فإن العقوبة من جنس الجزاء‏.‏ والمثوبة من جنس الجزاء فلما قيل ‏{‏ذلك جزيناهم بما كفروا‏}‏ تعين أن المراد‏:‏ وهل يجازى مثل جزائهم إلا الكفور، فلا يتوهم أن هذا يقتضي أن غير الكفور لا يجازى على فعله، ولا أن الثواب لا يسمى جزاء ولا أن العاصي المؤمن لا يجازَى على معصيته، لأن تلك التوهمات كلها مندفعة بما في اسم الإِشارة من بيان نوع الجزاء، فإن الاستئصال ونحوه لا يجري على المؤمنين‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏يجازى‏}‏ بياء الغائب والبناء للمجهول ورفع ‏{‏الكفورُ‏}‏‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي بنون العظمة والبناء للفاعل ونصب ‏{‏الكفور‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

تكملة القصة بذكر نعمة بعد نعمة فإن ما تقدم لِنعمة الرخاء والبهجة وطيب الإِقامة، وما هنا لِنعمة الأمن وتيسير الأسفار وعمران بلادهم‏.‏

والمراد بالقرى التي بوركت قرى بلاد الشام فكانوا إذا خرجوا من مأرب إلى البلاد الشامية قوافل للتجارة وبيع الطعام سلكوا طريق تهامة ثم الحجاز ثم مشارف الشام ثم بلاد الشام، فكانوا كلما ساروا مرحلة وجدوا قرية أو بلداً أو داراً للاستراحة واستراحوا وتزودوا‏.‏ فكانوا من أجل ذلك لا يحملون معهم أزواداً إذا خرجوا من مأْرب‏.‏

وهذه القرى الظاهرة يحتمل أنها تكونت من عمل الناس القاطنين حَفافي الطريق السابلة بين مأرب وجِلّق قصدَ استجلاب الانتفاع بنزول القوافل بينهم وابتياع الأزواد منهم وإيصال ما تحتاجه تلك القرى من السلع والثمار وهذه طبيعة العمران‏.‏

ويحتمل أن سبأ أقاموا مباني يأوون إليها عند كل مرحلة من مراحل أسفارهم واستنبطوا فيها الآبار والمصانع وأوكلوا بها من يحفظها ويكون لائذاً بهم عند نزولهم‏.‏ فيكون ذلك من جملة ما وطَّد لهم ملوكهم من أسباب الحضارة والأمن على القوافل، وقد تكون إقامة هاته المنازل مجلبة لمن يقطنون حولها ممن يرغب في المعاملة مع القافلة عند مرورها‏.‏

وعلى الاحتمالين فإسناد جعل تلك القرى إلى الله تعالى لأنه الملهم الناس والملوك أو لأنه الذي خلق لهم تربة طيبة تتوفر محاصيلها على حاجة السكان فتسمح لهم بتطلب ترْويجها في بلاد أخرى‏.‏

ووصف ‏{‏ظاهرة‏}‏ أنها متقاربة بحيث يظهر بعضها لبعض ويتراءى بعضها من بعض‏.‏ وقيل‏:‏ الظاهرة التي تظهر للسائر من بعد بأن كانت القرى مبنية على الآكام والظِراب يشاهدها المسافر فلا يضل طريقها‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ الذي يظهر لي أن معنى ‏{‏ظاهرةً‏}‏ أنها خارجة عن المدن فهي في ظواهر المدن ومنه قولهم‏:‏ نزلنا بظاهر المدينة الفلانية، أي خارجاً عنها‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏ظاهرةً‏}‏ كتسمية الناس إياها بالبادية وبالضاحية، ومنه قول الشاعر وأنشده أهل اللغة‏:‏

فلو شهدتني من قريش عصابة *** قريششِ البطاح لا قريششِ الظواهر

وفي حديث الاستسقاء‏:‏ «وجاء أهل الظواهر يشتكون الغرق» ا ه‏.‏ وهو تفسير جميل‏.‏ ويكون في قوله‏:‏ ‏{‏ظاهرةً‏}‏ على ذلك كناية عن وفرة المدن حتى إن القرى كلها ظاهرة منها‏.‏

ومعنى تقدير السير في القرى‏:‏ أن أبعادها على تقدير وتَعادل بحيث لا يتجاوز مقدار مرحلة‏.‏ فكانَ الغادي يقبل في قرية والرائح يبيت في قرية‏.‏ فالمعنى‏:‏ قدرنا مسافات السير في القرى، أي في أبعادها‏.‏ ويتعلق قوله‏:‏ ‏{‏فيها‏}‏ بفعل ‏{‏قدرنا‏}‏ لا بالسير لأن التقدير في القرى وأبعادها لا في السير إذ تقدير السير تبع لتقدير الأبعاد‏.‏

وجملة ‏{‏سيروا في ليالي‏}‏ مقول قول محذوف‏.‏ وجملة القول بيان لجملة ‏{‏قدرنا‏}‏ أو بدل اشتمال منها‏.‏

وهذا القول هو قول التكوين وهو جعلها يسيرون فيها‏.‏ وصيغة الأمر للتكوين‏.‏ وضمير ‏{‏فيها‏}‏ عائد إلى القرى، والظرفية المستفادة من حرف الظرف تخييل لمكنيةٍ، شبهت القُرى لشدة تقاربها بالظرف وحذف المشبه به ورُمز إليه بحرف الظرفية‏.‏ والمعنى‏:‏ سيروا بينها‏.‏

وكانوا يسيرون غدوًّا وعشيًّا فيسِيرون الصباح ثم تعترضهم قرية فيريحون فيها ويقيلون، ويسيرون المساء فتعترضهم قرية يبيتون بها‏.‏ فمعنى قوله‏:‏ ‏{‏سيروا فيها ليالي وأياماً‏}‏‏:‏ سيروا كيف شئتم‏.‏

وتقديم الليالي على الأيام للاهتمام بها في مقام الامتنان لأن المسافرين أحوج إلى الأمن في الليل منهم إليه في النهار لأن الليل تعترضهم فيه القُطاع والسباع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏19‏)‏‏}‏

الفاء من قوله‏:‏ ‏{‏فقالوا ربنا‏}‏ لتعقيب قولهم هذا إثر إتمام النعمة عليهم باقتراب المدن وتيسير الأسفار، والتعقيبُ في كل شيء بحسبه، فلما تمت النعمة بَطروها فحَلت بهم أسباب سلبها عنهم‏.‏

ومن أكبر أسباب زوال النعمة كفرانها‏.‏ قال الشيخ ابن عطاء الله الإِسكندري «من لم يشكر النَعم فقد تعرض لزوالها ومن شكرها فقد قيدها بعقالِها»‏.‏

والأظهر عندي أن يكون هذا القول قالوه جواباً عن مواعظ أنبيائهم والصالحين منهم حين ينهونهم عن الشرك فهم يعظونهم بأن الله أنعم عليهم بتلك الرفاهية وهم يجيبون بهذا القول إفحاماً لدعاة الخير منهم على نحو قول كفار قريش‏:‏ ‏{‏اللهم إن كان هذا هو الحقَّ من عندك فأمطِرْ علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏، قبل هذا «فأعرضوا فإن الإِعراض يقتضي دعوة لشيء» ويفيدُ هذا المعنى قوة ‏{‏وظلموا أنفسهم‏}‏ عقب حكاية قولهم، فإنه إما معطوف على جملة ‏{‏فقالوا‏}‏، أي فأعقبوا ذلك بكفران النعمة وبالإشراك، فإن ظلم النفس أطلق كثيراً على الإشراك في القرآن وما الإشراك إلا أعظم كفران نعمة الخالق‏.‏

ويجوز أن تكون جملة ‏{‏وظلموا أنفسهم‏}‏ في موضع الحال، والواو واو الحال، أي قالوا ذلك وقد ظلموا أنفسهم بالشرك فكان قولهم مقارناً للإِشراك‏.‏

وعلى الاعتبارين فإن العقاب إنما كان مسبباً بسببين كما هو صريح قوله‏:‏ ‏{‏فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إلا الكفور‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 16، 17‏]‏‏.‏

فالمُسَبَّب على الكفر هو استئصالهم وهو مدلول قوله‏:‏ ‏{‏فجعلناهم أحاديث‏}‏ كما ستعرفه، والمسبب على كفران نعمةِ تقارب البلاد هو تمزيقهم كل ممزق، أي تفريقهم، فنظم الكلام جاء على طريقة اللف والنشر المشوَّش‏.‏

ودرج المفسرون على أنهم دَعوا الله بذلك، ويعكر عليه أنهم لم يكونوا مقرِّين بالله فيما يظهر فإن درجنا على أنهم عرفوا الله ودعوه بهذا الدعاء لأنهم لم يقدُروا نعمته العظيمة قَدرها فسألوا الله أن تزول تلك القرى العامرة ليسيروا في الفيافي ويحملوا الأزواد من الميرة والشراب‏.‏

ثم يحتمل أن يكون أصحاب هذه المقالة ممن كانوا أدركوا حالة تباعد الأسفار في بلادهم قبل أن تؤول إلى تلك الحضارة، أو ممن كانوا يسمعون أحوال الأسفار الماضية في بلادهم أو أسفار الأمم البادية فتروق لهم تلك الأحوال، وهذا من كفر النعمة الناشئ عن فساد الذوق في إدراك المنافع وأضدادها‏.‏

والمباعدة بصيغة المفاعلة القائمة مقام همزة التعدية والتضعيف‏.‏ فالمعنى‏:‏ ربنا أبعد بين أسفارنا‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعَدْتَ بين المشرق والمغرب ‏"‏‏.‏

وقرأه الجمهور ‏{‏باعِد‏}‏‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ‏{‏بَعِّد‏}‏ بفتح الباء وتشديد العين‏.‏ وقرأه يعقوب وحده ‏{‏ربُّنا‏}‏ بالرفع و‏{‏باعَدَ‏}‏ بفتح العين وفتح الدال بصيغة الماضي على أن الجملة خبر المبتدأ‏.‏

والمعنى‏:‏ أنهم تذمروا من ذلك العمران واستقلّوه وطلبوا أن تزداد البلاد قرباً وذلك من بطر النعمة وطلب ما يتعذر حينئذٍ‏.‏

والتركيب يعطي معنى «اجعل البعد بين أسفارنا»‏.‏ ولما كانت ‏{‏بين‏}‏ تقتضي أشياء تعين أن المعنى‏:‏ باعد بين السفَر والسفر من أسفارنا‏.‏ ومعنى ذلك إبعاد المراحل لأن كل مرحلة تعتبر سفراً، أي باعد بين مراحل أسفارنا‏.‏

ومعنى ‏{‏فجعلناهم أحاديث‏}‏ جعلنا أولئك الذين كانوا في الجنات وفي بحبوحة العيش أحاديث، أي لم يبق منهم أحد فصار وجودهم في الأخبار والقصص وأبادهم الله حين تفرقوا بعد سيل العرم فكان ذلك مسرعاً فيهم بالفناء بالتغرب في الأرض والفاقة وتسلط العوادي عليهم في الطرقات كما ستعلمه‏.‏ وفعل الجعل يقتضي تغييراً ولما علق بذواتهم انقلبت من ذوات مشاهدة إلى كونها أخباراً مسموعة‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم هلكوا وتحدث الناس بهم‏.‏ وهذا نظير قولهم‏:‏ دخلوا في خبر كان، وإلاّ فإن الأحاديث لا يخلو منها أحد ولا جماعة‏.‏ وقد يكون في المدح كقوله‏:‏

هاذي قبورهُم وتلكَ قصورهم *** وحديثُهم مستودَع الأوْراق

أو أريد‏:‏ فجعلناهم أحاديث اعتبار وموعظة، أي فأصبناهم بأمر غريب من شأنه أن يتحدث به الناس فيكون ‏{‏أحاديث‏}‏ موصوفاً بصفة مقدرة دل عليها السياق مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأخذ كل سفينة غصباً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 79‏]‏، أي كل سفينة صالحة بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏فأردت أن أعيبها‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 79‏]‏‏.‏

والتمزيق‏:‏ تقطيع الثوب قِطَعاً، استعير هنا للتفريق تشبيهاً لتفريق جامعة القوم شذر مذر بتمزيق الثوب قطعاً‏.‏

و ‏{‏كل‏}‏ منصوب على المفعولية المطلقة لأنه بمعنى الممزق كله، فاكتسب معنى المفعولية المطلقة من إضافته إلى المصدر‏.‏

ومعنى ‏{‏كل‏}‏ كثيرة التمزيق لأن ‏(‏كلاً‏)‏ ترد كثيراً بمعنى الكثير لا بمعنى الجميع، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو جاءتهم كل آية‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 97‏]‏ وقال النابغة‏:‏

بها كل ذيال ***

وأشارت الآية إلى التفرق الشهير الذي أُصيبت به قبيلة سبأ إذ حملهم خراب السد وقحولة الأرض إلى مفارقة تلك الأوطان مفارقة وتفريقاً ضربَت به العرب المثل في قولهم‏:‏ ذهبوا، أو تفرقوا أيدي سبا، أو أياديَ سبا، بتخفيف همزة سبا لتخفيف المَثل‏.‏ وفي «لسان العرب» في مادة ‏(‏يدي‏)‏ قال المعري‏:‏ لم يهمزوا سبا لأنهم جعلوه مع ما قبله بمنزلة الشيء الواحد‏.‏ هكذا ولعله التباس أو تحريف، وإنما ذكر المعري عدم إظهار الفتحة على ياء «أيادي» أو «أيدي» كما هو مقتضى التعليل لأن التعليل يقتضي التزام فتح همزة سبا كشأن المركب المزجي‏.‏ قال في «لسان العرب»‏:‏ وبعضهم ينوِّنه إذا خففه، قال ذو الرمة‏:‏

فيا لك من دار تفرق أهلها *** أيادي سباً عنها وطال انتقالها

والأكثر عدم تنوينه قال كثير‏:‏

أيادي سَبا يا عز ما كنتُ بعدكم *** فلم يحلُ بالعينين بعدككِ منظر

والأيادي والأيدي فيه جمع يد‏.‏ واليد بمعنى الطريق‏.‏

والمعنى‏:‏ أنهم ذهبوا في مذاهب شتّى يسلكون منها إلى أقطار عدة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كنا طرائق قِدداً‏}‏

‏[‏الجن‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ الأيادي جمع يد بمعنى النعمة لأن سبا تلِفت أموالهم‏.‏

وكانت سبأ قبيلة عظيمة تنقسم إلى عشر أفخاذ وهم‏:‏ الأزد، وكندة، ومَذحج، والأشعريون، وأنمار، وبَجيلة، وعاملة، وهم خُزاعة، وغسان، ولخم، وجُذام‏.‏

فلما فارقوا مواطنهم فالستة الأولون تفرقوا في اليمن والأربعة الأخيرون خرجوا إلى جهات قاصية فلحقت الأزد بعمان، ولحقت خزاعة بتهامة في مكة، ولحقت الأوس والخزرج بيثرب، ولعلهم معدودون في لخم، ولحقت غسان ببُصرَى والغُوير من بلاد الشام، ولحقت لخم بالعراق‏.‏

وقد ذكر أهل القصص لهذا التفرق سبباً هو أشبه بالخرافات فأعرضتُ عن ذكره، وهو موجود في كتب السير والتواريخ‏.‏ وعندي أن ذلك لا يخلو من خذلان من الله تعالى سلبهم التفكر في العواقب فاستخفّ الشيطان أحلامهم فجزعوا من انقلاب حالهم ولم يتدرّعوا بالصبر حين سلبت عنهم النعمة ولم يجأروا إلى الله بالتوبة فبعثهم الجزع والطغيان والعناد وسوء التدبير من رؤسائهم على أن فارقوا أوطانهم عوضاً من أن يلموا شعثهم ويرقعوا خرقهم فتشتتوا في الأرض، ولا يخفى ما يلاقون في ذلك من نصب وجوع ونقص من الأنفس والحمولة والأزواد والحلول في ديار أقوام لا يرْثُون لحالهم ولا يسمحون لهم بمقاسمة أموالهم فيكونون بينهم عافين‏.‏

وجملة ‏{‏إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور‏}‏ تذييل فلذلك قطعت، وافتتاحها بأداة التوكيد للاهتمام بالخبر‏.‏ والمشار إليه بذلك هو ما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏لقد كان لسبإ في مساكنهم آية‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 15‏]‏‏.‏

ويظهر أن هذا التذييل تنهية للقصة وأن ما بعد هذه الجملة متعلق بالغرض الأول المتعلق بأقوال المشركين والمنتقل منه إلى العبرة بداود وسليمان والممثَّل لحال المشركين فيه بحال أهل سبا‏.‏

وجُمع «الآيات» لأن في تلك القصة عدة آيات وعِبَر فحالةُ مساكنهم آية على قدرة الله ورحمته وإنعامه، وفيه آية على أنه الواحد بالتصرف، وفي إرسال سير العرم عَليهم آية على انفراده تعالى بالتصرف، وعلى أنه المنتقم وعلى أنه واحد، فلذلك عاقبهم على الشرك، وفي انعكاس حالهم من الرفاهة إلى الشظف آية على تقلب الأحوال وتغير العالم وآية على صفات الأفعال لله تعالى من خَلْق ورَزق وإحياء وإماتة، وفي ذلك آية مِن عدم الاطمئنان لدوام حال في الخير والشر‏.‏ وفيما كان من عمران إقليمهم واتساع قراهم إلى بلاد الشام آية على مبلغ العمران وعظم السلطان من آيات التصرفات، وآية على أن الأمن أساس العمران‏.‏ وفي تمنيهم زوال ذلك آية على ما قد تبلغه العقول من الانحطاط المفضي إلى اختلال أمور الأمة وذهاب عظمتها، وفيما صاروا إليه من النزوححِ عن الأوطان والتشتت في الأرض آية على ما يُلجئ الاضطرارُ إليه الناس من ارتكاب الأخطار والمكاره كما يقول المثل‏:‏ الحُمى أضرعتني إليك‏.‏

والجمع بين ‏{‏صبار‏}‏ و‏{‏شكور‏}‏ في الوصف لإِفادة أن واجب المؤمن التخلق بالخُلقين وهما‏:‏ الصبر على المكاره، والشكر على النعم، وهؤلاء المتحدث عنهم لم يشكروا النعمة فيطروها، ولم يصبروا على ما أصابهم من زوالها فاضطربت نفوسهم وعمَّهم الجزع فخرجوا من ديارهم وتفرقوا في الأرض، ولا تسأل عما لاقوه في ذلك من المتالف والمذلات‏.‏

فالصبّار يَعْتَبر من تلك الأحوال فيعلم أن الصبر على المكاره خير من الجزع ويرتكب أخف الضرين، ولا يستخفه الجزع فيلقي بنفسه إلى الأخطار ولا ينظر في العواقب‏.‏

والشكور يعتبر بما أعطي من النعم فيَزداد شكراً لله تعالى ولا يبطر النعمة ولا يطغى فيُعاقبَ بسلبها كما سلبت عنهم، ومن وراء ذلك أن يَحرمهم الله التوفيق‏.‏ وأن يقذف بهم الخذلانُ في بنيات الطريق‏.‏

وفي الآية دلالة واضحة على أن تأمين الطريق وتيسير المواصلات وتقريب البلدان لتيسير تبادل المنافع واجتلاب الأرزاق من هنا ومن هناك نعمة إلهية ومقصد شرعي يحبه الله لمن يحب أن يرحمه من عباده كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ جعلنا البيت مثابةً للناس وأمناً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 125‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمنا وارزق أهله من الثمرات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 126‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وآمنهم من خوف‏}‏ ‏[‏قريش‏:‏ 4‏]‏، فلذلك قال هنا‏:‏ ‏{‏وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 18‏]‏‏.‏

وعلى أن الإِجحاف في إيفاء النعمة حقها من الشكر يعرّض بها للزوال وانقلاب الأحوال قال تعالى‏:‏ ‏{‏ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم اللَّه فأذاقها اللَّه لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 112‏]‏‏.‏

من أجل ذلك كله كان حقاً على ولاة أمور الأمة أن يسعَوا جهدهم في تأمين البلاد وحراسة السبل وتيسير الأسفار وتقرير الأمن في سائر نواحي البلاد جليلها وصغيرها بمختلف الوسائل، وكان ذلك من أهم ما تنفق فيه أموال المسلمين وما يبذل فيه أهل الخير من الموسرين أموالهم عوناً على ذلك، وذلك من رحمة أهل الأرض المشمولة لقول النبي صلى الله عليه وسلم «ارحموا من في الأرض يرحَمْكم من في السماء»‏.‏

وكان حقاً على أهل العلم والدين أن يرشدوا الأيمة والأمة إلى طريق الخير وأن ينبهوا على معالم ذلك الطريق ومسالكه بالتفصيل دون الإِجمال، فقد افتقرت الأمة إلى العمل وسئمت الأقوال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏20‏)‏ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ‏(‏21‏)‏‏}‏

الأظهر أن هذا عطف على قوله‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا هل ندلُّكم على رجل‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 7‏]‏ الآية وأن ما بينهما من الأخبار المسوقة للاعتبار كما تقدم واقع موقع الاستطراد والاعتراض فيكون ضمير ‏{‏عليهم‏}‏ عائداً إلى ‏{‏الذين كفروا‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا هل نُدلكم‏}‏ الخ‏.‏ والذي درج عليه المفسرون أن ضمير ‏{‏عليهم‏}‏ عائد إلى سبأ المتحدث عنهم‏.‏ ولكن لا مفرّ من أن قوله تعالى بعد ذلك‏:‏ ‏{‏قل ادعوا الذين زعمتم من دون اللَّه‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 22‏]‏ الآيات هو عَوْد إلى محاجة المشركين المنتقل منها بذكر قصة داود وسليمان وأهل سبا‏.‏ وصلوحية الآية للمحملين ناشئة من موقعها، وهذا من بلاغة القرآن المستفادة من ترتيب مواقع الآية‏.‏

فالمقصود تنبيه المؤمنين إلى مكائد الشيطان وسوء عاقبة أتباعه ليحذروه ويستيقظوا لكيده فلا يقعوا في شَرَك وسوسته‏.‏

فالمعنى‏:‏ أن الشيطان سوّل للمشركين أو سوّل للمُمثَّل بهم حالُ المشركين الإِشراك بالمنعم وحسَّن لهم ضد النعمة حتى تمنّوه وتوسم فيهم الانخداع له فألقى إليهم وسوسته وكرّه إليهم نصائح الصالحين منهم فَصَدق توسُّمُه فيهم أنهم يأخذون بدعوته فقبلوها وأعرضوا عن خلافها فاتبعوه‏.‏

ففي قوله‏:‏ ‏{‏صدق عليهم إبليس ظنه‏}‏ إيجاز حذف لأن صِدق الظن المفرع عنه اتَّباعهم يقتضي أنه دعاهم إلى شيء ظانّاً استجابة دعوته إياهم‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏صدق‏}‏ بتخفيف الدال ف ‏{‏إبليس‏}‏ فاعل و‏{‏ظنه‏}‏ منصوب على نزع الخافض، أي في ظنه‏.‏ و‏{‏عليهم‏}‏ متعلق ب ‏{‏صدق‏}‏ لتضمينه معنى أوقع أو ألقى، أي أوقع عليهم ظنه فصدق فيه‏.‏ والصِدق بمعنى الإِصابة في الظن لأن الإِصابة مطابقة للواقع فهي من قبيل الصدق‏.‏ قال أبو الغول الطُهَوي من شعراء الحماسة‏:‏

فدتْ نفسي وما ملكتْ يميني *** فوارسَ صُدِّقَتْ فيهم ظنوني

وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف ‏{‏صدَّق‏}‏ بتشديد الدال بمعنى حقّق ظنه عليهم حين انخدعوا لوسوسته فهو لمّا وسوس لهم ظن أنهم يطيعونه فجدّ في الوسوسة حتى استهواهم فحقق ظنه عليهم‏.‏

وفي ‏(‏على‏)‏ إيماء إلى أن عمل إبليس كان من جنس التغلب والاستعلاء عليهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فاتبعوه‏}‏ تفريع وتعقيب على فعل ‏{‏صدق عليهم إبليس ظنه‏}‏ أي تحقق ظنه حين انفعلوا لفعل وسوسته فبادروا إلى العمل بما دعاهم إليه من الإِشراك والكفران‏.‏

و ‏{‏إلا فريقاً‏}‏ استثناء من ضمير الرفع في ‏{‏فاتبعوه‏}‏ وهو استثناء متصل إن كان ضمير «اتبعوه» عائداً على المشركين وأما إن كان عائداً على أهل سبا فيحتمل الاتصال إن كان فيهم مؤمنين وإلا فهو استثناء منقطع، أي لم يعصه في ذلك إلا فريق من المؤمنين وهم الذين آمنوا من أهل مكة، أو الذين آمنوا من أهل سبا‏.‏ فلعل فيهم طائفة مؤمنين ممن نجوا قبل إرسال سيل العرم‏.‏

والفريق‏:‏ الطائفة مطلقاً، واستثناؤها من ضمير الجماعة يؤذن بأنهم قليل بالنسبة للبقية، وإلا فإن الفريق يصدق بالجماعة الكثيرة كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 30‏]‏‏.‏

والتعريف في ‏{‏المؤمنين‏}‏ للاستغراق و‏{‏مِن‏}‏ تبعيضية، أي إلا فريقاً هم بعض جماعات المؤمنين في الأزمان والبلدان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وما كان له عليهم من سلطان‏}‏ أي ما كان للشيطان من سلطان على الذين اتبعوه‏.‏

وفعل ‏{‏كان‏}‏ في النفي مع ‏{‏مِن‏}‏ التي تفيد الاستغراق في النفي يفيد انتفاء السلطان، أي المِلك والتصريف للشيطان، أي ليست له قدرة ذاتية هو مستقل بها يتصرف بها في العالم كيف يشاء لأن تلك القدرة خاصة بالله تعالى‏.‏

والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلا لنعلم‏}‏ استثناء من علل‏.‏ فيفيد أن تأثير وسوسته فيهم كان بتمكين من الله، أي لكن جعلنا الشيطان سبباً يتوجه إلى عقولهم وإرادتهم فتخامرها وسوستُه فيتأثر منها فريق وينجو منها فريق بما أودع الله في هؤلاء وهؤلاء من قوة الانفعال أو الممانعة على حسب السنن التي أودعها الله في المخلوقات‏.‏

ويجوز أن يكون الاستثناء من عموم سلطان، وحذف المستثنى ودلّ عليه علته والتقدير‏:‏ إلا سلطاناً لنعلم من يؤمن بالآخرة‏.‏ فيدل على أنه سلطان مجعول له بجعل الله بقرينة أن تعليله مسند إلى ضمير الجلالة‏.‏

وانظر ما قلناه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين‏}‏ في سورة الحجر ‏(‏42‏)‏ وضُمَّه إلى ما قلناه هنا‏.‏

واقتُصر من علل تمكين الشيطان من السلطان على تمييز مَن يؤمن بالآخرة ومَن لا يؤمن بها لمراعاة أحوال الذين سبقت إليهم الموعظة بأهل سَبا وهم كفار قريش لأن جحودهم الآخرة قرين للشرك ومساو له فإنهم لو آمنوا بالآخرة لآمنوا بربها وهو الرب الواحد الذي لا شريك له، وإلا فإن علل جعل الشيطان للوسوسة كثيرة مرجعها إلى تمييز الكفار من المؤمنين، والمتقين من المعرضين‏.‏ وكني ب نعلم عن إظهار التمييز بين الحالين لأن الظهور يلازم العلم في العرف‏.‏ قال قبيصة الطائي من رجال حرب ذي قار‏:‏

وأقبلت والخطيُّ يَخطِر بيننا *** لأعَلَم مَن جبانها من شجاعها

أراد ليتميز الجبان من الشجاع فيعلمه الناس، فإن غرضه الأهم إظهار شجاعة نفسه لثقته بها لا اختبار شجاعة أقرانه وإلا لكان متردداً في إقدامه‏.‏ فالمعنى‏:‏ ليظهر من يؤمن بالآخرة ويتميز عمّن هو منها في شك فيعلمه من يعلمه ويتعلق علمنا به تعلقاً جُزئياً عند حصوله يترتب عليه الجزاء فقد ذكرنا فيما تقدم أن لا محيص من اعتبار تعلق تنجيزيّ لعلم الله‏.‏ ورأيت في الرسالة الخاقانية‏}‏ لعبد الحكيم السلكوتي أن بعض العلماء أثبت ذلك التعلق ولم يعين قائله‏.‏ وخولف في النظم بين الصلتين فجاءت جملة ‏{‏من يؤمن بالآخرة‏}‏ فعلية، وجاءت جملة ‏{‏هو منها في شك‏}‏ اسمية لأن الإِيمان بالآخرة طارئ على كفرهم السابق ومتجدد ومتزايد آنا فآنا‏.‏ فكان مقتضى الحال إيراد الفعل في صلة أصحابه‏.‏

وأما شكهم في الآخرة فبخلاف ذلك هو أمر متأصل فيهم فاجتلبت لأصحابه الجملة الإسمية‏.‏

وجيء بحرف الظرفية للدلالة على إحاطة الشك بنفوسهم ويتعلق قوله‏:‏ ‏{‏منها‏}‏ بقوله‏:‏ «بشك»‏.‏

وجملة ‏{‏وربك على كل شيء حفيظ‏}‏ تذييل‏.‏ والحفيظ‏:‏ الذي لا يخرج عن مقدرته ما هو في حفظه، وهو يقتضي العلم والقدرة إذ بمجموعهما تتقوم ماهية الحفظ ولذلك يُتبع الحفظ بالعلم كثيراً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني حفيظ عليم‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 55‏]‏‏.‏ وصيغة فعيل تدل على قوة الفعل وأفاد عموم ‏{‏كل شيء‏}‏ أنه لا يخرج عن علمه شيء من الكائنات فتنزل هذا التذييل منزلة الاحتراس عن غير المعنى الكنائي من قوله‏:‏ ‏{‏لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك‏}‏، أي ليظهر ذلك لكل أحد فتقوم الحجة لهم وعليهم‏.‏